سورة ص - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ص)


        


{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)}
{ص} قرأ العامة بالجزم، واختلفوا في معناه.
فقال الكلبي: عن أبي صالح، سُئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن {ص} فقالا: لا ندري.
وقال عكرمة: سأل نافع الأزرق عبد الله بن عباس عن {ص} فقال: كان بحراً بمكّة وكان عليه عرش الرّحمن، إذ لا ليل ولا نهار.
سعيد بن جبير: {ص} بحر يُحيي الله به الموتى بين النفختين.
الضحّاك: صدق الله. مجاهد: فاتحة السّورة. قتادة: اسم من أسماء القرآن. السدّي: قسم أقسم الله سبحانه وتعالى به، وهو اسم من أسماء الله عزّ وجلّ. وهي رواية الوالبي عن ابن عبّاس.
محمد بن كعب القرظي: هو مفتاح أسماء الله، صمد، وصانع المصنوعات، وصادق الوعد.
وقيل: هو اسم السّورة، وقيل: هو إشارة إلى صدود الكفّار من القرآن. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: صاد بخفض الدّال، من المصادّاة، أي عارض القرآن بعملك وقابله به، واعمل بأوامره، وانته عن نواهيه.
وقرأ عيسى بن عمر صاد بفتح الدّال، ومثلهُ قاف ونون، لإجتماع السّاكنين، حرّكها إلى أخف الحركات.
وقيل: على الإغراء.
وقيل في {ص}: إنّ معناه صاد محمّد قلوبَ الخلق واستمالها حتّى آمنوا به.
{والقرآن ذِي الذكر} قال ابن عباس ومقاتل: ذي البيان.
الضحاك: ذي الشرف، دليله قوله عزّ وجل: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44].
وقيل: ذي ذكر الله عزّ وجلّ.
واختلفوا في جواب القسم، فقال قتادة: موضع القسم قوله: {بَلِ الذين كَفَرُواْ} كما قال سبحانه: {ق والقرآن المجيد * بَلْ عجبوا} [ق: 1- 2]. وقال الأخفش جوابه قوله: {إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل} كقوله عزّ وجل: {تالله إِن كُنَّا...} [الشعراء: 97] وقوله: {والسمآء والطارق} [الطارق: 1] {إِن كُلُّ نَفْسٍ} [الطارق: 4]. وقيل: قوله: {إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ}.
وقال الكسائي: قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار}.
وقيل: مقدم ومؤخر تقديره {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} {والقرآن ذِي الذكر}.
وقال الفراء: {ص} معناها وجب وحقّ، فهي جواب لقوله: {والقرآن} كما تقول: نزل والله.
وقال القتيبي من قال جواب القسم {بَلِ الذين كَفَرُواْ} قال: {بل} إنما تجيء لتدارك كلام ونفي آخر، ومجاز الآية أن الله أقسم ب {ص والقرآن ذِي الذكر * بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} ويعني حمية جاهلية وتكبر.
{وَشِقَاقٍ} يعني خلاف وفراق.
{كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ} بالأيمان والاستغاثة عند نزول العقوبة وحلول النقمة بهم.
{وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} وليس بوقت فرار ولا بر.
وقال وهب: {وَّلاَتَ} بلغة السريانية إذا أراد السرياني أن يقول وليس يقول: ولات. وقال أئمة أهل اللغة: {وَّلاَتَ حِينَ} مفتوحتان كأنّهما كلمة واحدة، وإنّما هي (لا) زيدت فيها التاء كقولهم: رُبّ ورُبَّت، وثمَّ وثمَّت.
قال أبو زيد الطائي:
طلبوا صلحنا ولات أوان *** فأجبنا أن ليس حين بقاء
وقال آخر:
تذكّرت حبّ ليلى لات حيناً *** وأمسى الشيب فقطع القرينا
وقال قوم: إن التاء زيدت في حين كقول أبي وجزة السعديّ:
العاطفون حين ما من عاطف *** والمطعمون زمان ما من مطعم
وتقول العرب: تلان بمعنى الآن، ومنه حديث ابن عمر سأله رجل عن عثمان رضي الله عنه فذكر مناقبه ثم قال: اذهب بها تلان إلى أصحابك يريد الآن.
وقال الشاعر:
تولى قبل يوم بين حمانا *** وصلينا كما زعمت تلانا
فمن قال: إن التاء مع (لا) قالوا: قف عليه لأن بالتاء [...].
وروى قتيبة عن الكسائي أنّه كان يقف: ولاه، بالهاء، ومثله روي عن أهل مكة، ومن قال: إن التاء مع حين. قالوا: قف عليه ولا، ثم يبتدئ بحين مناص. وهو اختيار أبي عبيد قال: لأني تعمدّت النظر إليه في الأمام مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه عنه فوجدت التاء متصلة مع حين قد ثبتت: (تحين).
وقال الفراء: النوص بالنون التأخر، والبوص بالباء التقدم. وجمعهما امرؤ القيس في بيت فقال:
أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص *** فتقصر عنها خطوة وتبوص
فمناص مفعل من ناص مثل مقام.
قال ابن عباس: كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب قال بعضهم لبعض: مناص، أي اهربوا وخذوا حذركم، فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا: مناص، فأنزل الله سبحانه {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ}.
{وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الكافرون هذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً}.
وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون، فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش، وهم الصناديد والأشراف، وكانوا خمسة وعشرين رجلاً، الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم سنّاً، وأبو جميل ابن هشام، وأُبي وأُميّة ابنا خلف، وعمر بن وهب بن خلف، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وعبد الله بن أُميّة والعاص بن وائل، والحرث بن قيس، وعدي بن قيس، والنضر بن الحرث، وأبو البحتري بن هشام، وقرط بن عمرو، وعامر بن خالد، ومحرمة بن نوفل، وزمعة بن الأسود، ومطعم بن عدي، والأخنس بن سريق، وحويطب ابن عبد العزى، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، والوليد بن عتبة، وهشام بن عمر بن ربيعة، وسهيل بن عمرو، فقال لهم الوليد بن المغيرة: امشوا إلى أبي طالب. فأتوا أبا طالب فقالوا له: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، وإنّا أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فدعاه فقال له: يابن أخ هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وماذا يسألوني؟» فقال: يقولون ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وآلهك فقال النبي عليه السلام: «أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟» فقال أبو جهل: لله أبوك لنعطينكها وعشر أمثالها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا لا إله إلاّ الله».
فنفروا من ذلك وقاموا وقالوا: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً} كيف يسع الخلق كلهم إله واحد.
{إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} أي عجيب.
قال مقاتل: بلغة أزدشنوه.
قال أهل اللغة: العجيب والعجاب واحد كقولك كريم وكرام وكبير ووكبار وطويل وطوال وعريض وعراض وسكين حديد وحداد.
أنشد الفراء:
كحلقة من أبي رماح *** تسمعها لاهة الكبار
وقال آخر:
نحن أجدنا دونها الضرابا *** إنّا وجدنا ماءها طيابا
يريد طيباً.
وقال عباس بن مرداس: تعدوا به سلميةٌ سُراعه. أي سريعة.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وعيسى بن عمر: عجّاب بالتشديد. وهو المفرط في العجب.
فأنشد الفراء:
آثرت إدلاجي على ليل جرّة *** هضيم الحشا حسانة المتجرد
وأنشد أبو حاتم:
جاءوا بصيد عجّب من العجب *** أُزيرق العينين طوال الذنب
{وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا} يعني إلى أبي طالب فأشكوا إليه ابن أخيه {وَاْصْبِرُواْ} واثبتوا {على آلِهَتِكُمْ} نظيرها في الفرقان {لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 42].
{إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرَادُ} أي لأمر يُراد بنا {مَا سَمِعْنَا بهذا} الذي يقول محمّد {فِى الملة الآخرة}.
قال ابن عبّاس والقرظي والكلبي ومقاتل: يعنون النصرانية، لأن النصارى تجعل مع الله إلهاً.
وقال مجاهد وقتادة: يعنون ملة قريش، ملة زماننا هذا.
{إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق * أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر} القرآن {مِن بَيْنِنَا} قال الله عزّ وجلّ: {بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي} أيّ وحيي.
{بَل لَّمَّا} أي لم {يَذُوقُواْ عَذَابِ} ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول.


{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)}
{أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ} نعمة {رَبِّكَ} يعني مفاتيح النبوة، نظيرها في الزخرف {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] أي نبوة ربك {العزيز الوهاب * أَمْ لَهُم مُّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب} أي فليصعدوا في الجبال إلى السماوات، فليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون ويشاؤن، وهذا أمر توبيخ وتعجيز.
وقال الضحاك ومجاهد وقتادة: أراد بالأسباب: أبواب السماء وطرقها.
{جُندٌ} أي هم جُند {مَّا هُنَالِكَ} أي هنالك و{ما} صلة {مَهْزُومٌ} مغلوب، ممنوع عن الصعود إلى السماء {مِّن الأحزاب} أي من جملة الأجناد.
وقال أكثر المفسرين: يعني أن هؤلاء الملأ الذين يقولون هذا القول، جند مهزوم مقهور وأنت عليهم مظفر منصور.
قال قتادة: وعده الله عزّ وجلّ بمكة أنّه سيهزمهم، فجاء تأويلها يوم بدر من الأحزاب، أيّ كالقرون الماضية الذين قهروا وأهلكوا، ثم قال معزّاً لنبيه صلى الله عليه وسلم {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد} قال ابن عبّاس: ذو البناء المحكم.
وقال القتيبي: والعرب تقول: هم في عز ثابت الأوتاد، وملك ثابت الأوتاد.
يريدون أنّه دائم شديد، وأصل هذا أن البيت من بيوتهم بأوتاده.
قال الأسود بن يعفر: في ظل ملك ثابت الأوتاد.
وقال الضحاك: ذو القوة والبطش.
وقال الحلبي ومقاتل: كان يعذب الناس بالأوتاد، وكان إذا غضب على أحد مَدّهُ مستلقياً بين أربعة أوتاد كل رجل منه إلى سارية وكل يد منه إلى سارية، فيتركه كذلك في الهواء بين السماء والأرض حتّى يموت.
وقال مقاتل بن حيان: كان يمد الرجل مستلقياً على الأرض ثم يشده بالأوتاد.
وقال السدي: كان يمد الرجل ويشده بالأوتاد ويرسل عليه العقارب والحيّات.
وقال قتادة وعطاء: كانت له أوتاد وأرسال وملاعب يلعب عليها بين يديه.
{وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أولئك الأحزاب * إِن كُلٌّ} ما كل منهم {إِلاَّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ عِقَابِ} فوجب عليهم ونزل بهم عذابي {وَمَا يَنظُرُ} ينتظر {هؤلاءآء} يعني كفار مكة {إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً} وهي نفخة القيامة.
وقد روي هذا التفسير مرفوعاً إلى النبي عليه السلام.
{مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ}.
قال ابن عبّاس وقتادة: من رجوع. الوالبي: يزداد. مجاهد: نظرة. الضحاك: مستوية.
وفيه لغتان: {فُواق} بضم الفاء وهي لغة تميم، وقراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف. و{فَواق} بالفتح وهي لغة قريش، وقراءة سائر القرّاء واختيار أبي عبيد.
قال الكسائي: هما لغتان بمعنى واحد، كما يقال حُمام المكوك وحُمامه، وقصاص الشعر وقصاصه.
وفرّق الآخرون بينهما.
قال أبو عبيدة والمؤرخ: بالفتح بمعنى الراحة والإفاقة كالجواب من الإجابة، ذهبا به إلى إفاقة المريض من علته، والفُواق بالضم مابين الحلبتين، وهو أن يحلب الناقة ثم تترك ساعة حتّى يجتمع اللبن فما بين الحلبتين فواق.
فاستعير في موضع الإنتظار مدة يسيرة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رابط فواق ناقة في سبيل الله حرّم الله جسده على النار».
{وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب}.
قال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس: يعني كتابنا.
وعنه أيضاً: القط الصحيفة التي أحصت كل شيء.
قال أبو العالية والكلبي: لمّا نزلت في الحاقة {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19]، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة: 25].
قالوا على جهة الاستهزاء: {عجّل لنا قطنّا} يعنون كتابنا عجلّه لنا في الدُّنيا.
قيل: يوم الحساب.
وقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي: يعني عقوبتنا وماكتب لنا من العذاب.
قال عطاء: قاله النظر بن الحرث، وهو قوله: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] وهو الذي قال الله سبحانه {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] قال عطاء: لقد نزلت فيه بضع عشرة آية من كتاب الله عزّ وجلّ.
وقال سعيد بن جبير: يعنون حظنا ونصيبنا من الجنّة التي تقول.
قال الفراء: القَطّ في كلام العرب الحظ، ومنه قيل للصك قطّ.
وقال أبو عبيدة والكسائي: القطّ الكتاب بالجوائة.
قال الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته *** بغبطته يعطي القطوط ويأفق
يعني كتب الجوائز أيّ بفضل وبعلو، يقال فرس أفق وناقة أفقه إذا كانا كريمين، وفضّلا على غيرهما.
وقال مجاهد: قطنّا حسابنا، ويقال لِكتاب الحساب: قطّ، وأصل الكلمة من الكتابة.
فقال الله سبحانه لنبيه عليه السلام: {اصبر على مَا يَقُولُونَ واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيد} ذا القوة في العبادة {إِنَّهُ أَوَّابٌ} مطيع.
عن ابن عبّاس: رجّاع إلى التوبة.
عن الضحاك، سعيد بن جبير: هو المسبّح بلغة الحبش.
أخبرني الحسين بن محمّد الدينوري قال: حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدثنا أبو العبّاس عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس ببغداد قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن القاسم قال: حدثنا عمرو بن حصين قال: حدثنا الحسين بن عمرو عن أبي بكر الهذلي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الزرقة يمن وكان داود النبي عليه السلام أزرق».
{إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} بتسبيحه.
قال ابن عبّاس: وكان يفهم تسبيح الحجر والشجر.
{بالعشي والإشراق}.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه قال: حدثنا الحسين بن يحيويه قال: حدثنا أبو أُميّة محمّد بن إبراهيم قال: حدثنا الحجاج بن نصير قال: حدثنا أبو بكر الهذلي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس قال: كنت أمُرّ بهذه الآية لا أدري مالعشي والإشراق، حتّى حدثتني أُم هاني بنت أبي طالب أن رسول الله عليه السلام دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ، ثم صلى الضحى وقال: «يا أُم هاني هذه صلاة الإشراق».
روى عطاء الخراساني عن ابن عبّاس قال: لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتّى طلبتها في القرآن فوجدتها في هذه الآية {يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق}.
قال عكرمة: وكان ابن عبّاس لا يصلي صلاة الضحى ثم صلى بعدها.
وروي أن كعب الأحبار قال لابن عبّاس رضي الله عنه: إني لأجد في كتاب الله صلاة بعد طلوع الشمس.
فقال ابن عبّاس: أنا أوجدك ذلك في كتاب الله في قصة داود {يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق} وليس الإشراق طلوع الشمس، إنّما هو صفاؤها وضوؤها.
{والطير} أيّ وسخّرنا له الطير {مَحْشُورَةً} مجموعة {كُلٌّ لَّهُ} أيّ لداود {أَوَّابٌ} مطيع {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} أيّ قوّيناه.
وقرأ الحسن: وشدّدنا بتشديد الدال.
قال ابن عبّاس: كان أشد ملوك الأرض سلطاناً كان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل، فذلك قوله: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} بالحرس.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن خالد بن الحسن قال: حدثنا داود بن سليمان قال: حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا محمّد بن الفضل قال: حدثنا داود بن أبي الفرات عن عليّ بن أحمد عن عكرمة عن ابن عبّاس: أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم، فاجتمعا عند داود النبي فقال المستعدي: ان هذا غصبني بقرتي.
فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده، وسأل الآخر البيّنة فلم يكن له بيّنة. قال لهما داود: قوما حتى أنظر في أمركما.
فقاما من عنده، فأوحى الله سبحانه إلى داود عليه السلام في منامه: أن يقتل الرجل الذي استُعدي عليه.
فقال: هذه رؤيا ولست أعجل حتّى أتثبت.
فأوحى الله سبحانه إليه مرة أُخرى أن يقتله. فلم يفعل، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه الثالثة: أن يقتله أو تأتيه العقوبة من الله، فأرسل داود إلى الرجل فقال له: إن الله قد أوحى إليَّ أن أقتلك.
فقال له الرجل: تقتلني بغير بيّنة ولاثبت فقال له داود: نعم، والله لأُنفذن أمر الله فيك.
فلمّا عرف الرجل أنّه قاتله قال: لا تعجل حتّى أُخبرك أني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته، فلذلك أُخذت.
فأمر به داود فقتل، فاشتدت هيبته في بني إسرائيل عند ذلك لداود، واشتد به ملكه فهو قوله سبحانه: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ}.
{وَآتَيْنَاهُ الحكمة} يعني النبوة والاصابة في الأمور. وقال أبو العالية: العلم الذي لاتردّه العقول.
{وَفَصْلَ الخطاب} قال ابن عبّاس: بيان الكلام.
وقال الحسن والكلبي وابن مسعود ومقاتل وأبو عبد الرحمن السلمي: يعني علم الحكم والبصر بالقضاء، كأن لا يتتعتع في القضاء بين الناس، وهي إحدى الروايات عن ابن عبّاس.
وقال علي بن أبي طالب: هو البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر.
وأخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد بن محمّد بن عمر الجوري قال: أخبرنا أبو بكر بالويه بن محمّد بن بالويه المربتاني بها، قال: حدثنا محمّد بن حفص الحوني قال: حدثنا نصر بن علي الخميصمي قال: أخبرنا أبو أحمد قال: اخبرنا شريك عن الأعمش عن أبي صالح عن كعب في قوله: {وَفَصْلَ الخطاب} قال: الشهود والإيمان.
أنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الله بن محمّد قال: حدثنا محمّد بن يحيى قال: حدثنا وهب بن جرير قال: أخبرنا شعبة عن الحكم عن شريح في قوله: {وَفَصْلَ الخطاب} قال: الشهود والإيمان. وهو قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي قال: حدثنا أحمد بن محمّد أبي شيبة قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم البغوي قال: حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن زكريا يعني ابن أبي زائدة عن السبيعي قال: سمعت زياداً يقول: {وَفَصْلَ الخطاب} الذي أُعطي داود، أما بعد وهو أوّل من قالها.
{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم} الآية. اختلف العلماء بأخبار الأنبياء في سبب امتحان الله سبحانه نبيّه داود بما امتحنه به من الخطيئة.
فقال قوم: كان سبب ذلك أنه تمنى يوماً من الأيام على ربّه عزّ وجلّ منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام وسأله أن يمتحنه نحو الذي كان امتحنهم، ويعطيه من الفضل نحو الذي كان أعطاهم.
وروى السدي والكلبي ومقاتل: عن أشياخهم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: كان داود قد قسّم الدهر ثلاثة أيام: يوماً يقضي فيه بين الناس، ويوماً يخلوا فيه لعبادة ربّه، ويوماً يخلوا فيه لنسائه وأشغاله. وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال: يارب أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي.
فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: أنهم إبتلوا ببلاء مالم تبتلِ بشيء من ذلك فصبروا عليها. إبتلى إبراهيم بنمرود وبذبح ابنه، وإبتلى إسحاق بالذبح وبذهاب بصره، وإبتلى يعقوب بالحزن على يوسف. وأنك لم تبتلِ بشيء من ذلك.
فقال داود: ربِّ فإبتلني بمثل ما إبتليتهم وأعطني مثل ما أعطيتهم.
فأوحى الله سبحانه إليه: أنك مبتلى في شهر كذا في يوم كذا واحترس.
فلمّا كان ذلك اليوم الذي وعده الله تعالى، دخل داود محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور، فبينا هو كذلك إذ جاءه الشيطان قد تمثل في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن، فوقعت بين رجليه، فمدَّ يده ليأخذها ويدفعها إلى ابن صغير له، فلما أهوى إليها طارت غير بعيد، من غير أن توئيسه من نفسها فامتد اليها ليأخذها فتنحت، فتبعها فطارت حتّى وقعت في كوة، فذهب ليأخذها فطارت من الكوة، فنظر داود أين تقع، فبعث إليها من يصيدها، فأبصر امرأة في بستان على شط بركة لها تغتسل، هذا قول الكلبي.
وقال السدي: رآها تغتسل على سطح لها، فراى امرأة من أجمل النساء خلقاً، فتعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة وأبصرت ظله، فنفضت شعرها فغطى بدنها، فزاده ذلك إعجاباً بها فسأل عنها. فقيل: هي تشايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنانا، وزوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود.
فكتب داود إلى ابن أخته أيوب صاحب بعث البلقاء: أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وقدّمه قبل التابوت وكان من قدّم على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتّى يفتح الله سبحانه على يديه أو يستشهد، فبعثه وقدّمه فَفُتح له، فكتب إلى داود بذلك، فكتب إليه أيضاً: أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا. فبعثه فَفُتح له، فكتب إلى داود بذلك، فكتب إليه أيضاً: أن ابعثه إلى عدو كذا أشدّ منه بأساً. فبعثه فقتل في المرة الثالثة، فلمّا انقضت عدّة المرأة تزوجّها داود فهي أم سليمان.
وقال آخرون: سبب امتحانه أن نفسه حدثته أنّه يطيق قطع يوم بغير مقارفة.
وهو ما أخبرنا شعيب بن محمّد قال: أخبرنا مكي بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن الأزهر قال: حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا سعيد عن مطر عن الحسن قال: إن داود جزّأ الدهر أربعة أجزاء: يوماً لنسائه، ويوماً للعبادة، ويوماً للقضاء بين بني إسرائيل، ويوماً لبني إسرائيل يذاكرهم ويذاكرونه ويبكهم ويبكونه.
قال: فلما كان يوم بني إسرائيل ذكروا فقالوا: هل يأتي على الإنسان يوم لايصيب فيه ذنباً؟
فأضمر داود في نفسه أنه سيطبق ذلك، فلمأا كان يوم عبادته غلق أبوابه وأمر أن لايدخل عليه أحد، وأكبّ على قراءة التوراة، فبينما هو يقرأ إذ حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن قد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذها، فطارت فوقعت غير بعيد من غير أن توئيسه من نفسها، فما زال يتبعها حتّى أشرف على امرأة تغتسل فأعجبه خلقها وحسنها، فلمّا رأت ظله في الأرض جللت نفسها بشعرها، فزاده ذلك بها إعجاباً، وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن أسر إلى مكان كذا وكذا مكاناً، إذا سار إليه قُتل ولم يرجع ففعل فأصيب، فخطبها داود فتزوجها.
وقال بعضهم: في سبب ذلك ما أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد قال: حدثنا مخلد ابن جعفر الباقرجي قال: حدثنا الحسين بن علوية قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن قال: قال داود لبني إسرائيل حين ملك: والله لأعدلن بينكم، فلم يستثن فابتلي به.
وقال أبو بكر محمّد بن عمر الوراق: كان سبب ذلك أن داود عليه السلام كان كثير العبادة فأعجب بعلمه فقال: هل في الأرض أحد يعمل عملي؟
فأتاه جبرئيل فقال: ان الله عزّ وجلّ يقول: أعجبت بعبادتك والعُجب يأكل العبادة، فإن أُعجبت ثانياً وكلتك إلى نفسك.
قال: يارب كلني إلى نفسي سنة.
قال إنها لكثيرة.
قال: فساعة.
قال: شأنك بها.
فوكل الأحراس ولبس الصوف ودخل المحراب ووضع الزبور بين يديه، فبينا هو في نسكه وعبادته إذ وقع الطائر بين يديه وكان من أمر المرأة ما كان.
قالوا: فلمّا دخل داود بامرأة أوريا لم تلبث إلاّ يسيراً حتّى بعث الله سبحانه ملكين في صورة أنسيين فطلبا أن يدخلا عليه، فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحرس أن يدخلا عليه، فتسورا المحراب عليه، فما شعر وهو يصلي إلاّ وهو بهما بين يديه جالسين، فذلك قوله: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} وإنّما جعلوا جمع الفعل، لأن الخصم اسم يصلح للواحد والجميع والإثنين والمذكر والمؤنث.
قال لبيد:
وخصم يعدون الدخول كأنهم *** قروم غيارى كل أزهر مصعب
وقال آخر:
وخصم عضاب ينفضون لحاهم *** كنفض البراذين العراب المخاليا
وإنّما جمع وهما إثنان، لأن معنى الجمع ضم شيء إلى شيء فالإثنان فما فوقهما جماعة، كقوله عزّ وجلّ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4].


{إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}
{إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ} قال الفراء: قد كرر إذ مرتين، ويكون معناهما كالواحد، كقولك: ضربتك إذ دخلت علي إذ اجترأت، فالدخول هو الاجتراء، ويجوز أن يجعل أحديهما على مذهب لما.
{فَفَزِعَ مِنْهُمْ} حين همّا عليه محرابه بغير إذنه.
{قَالُواْ لاَ تَخَفْ} ياداود {خَصْمَانِ} أي نحن خصمان {بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ} ولا تجز، عن ابن عبّاس والضحاك.
وقال السدي: لاتسرف. المؤرخ: لاتفرط.
وقرأ أبو رجاء العطاردي: ولا تَشطُط بفتح التاء وضم الطاء الأولى، والشطط والأشطاط مجاوزة الحد، وأصل الكلمة من حدهم شطت الدار، وأشطت إذا بعدت.
{واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط} أيّ وسط الطريق، فإن قيل: كيف قال: إن هذا أخي فأوجب الأخوة بين الملائكة ولامناسبة بينهم، لأنهم لاينسلون.
في الجواب: أن معنى الآية: نحن لخصمين كما يقال وجهه: القمر حسناً، أيّ كالقمر.
قال أحد الخصمين {إِنَّ هَذَآ أَخِي} على التمثيل لا على التحقيق، على معنى كونهما على طريقة واحدة وجنس واحد، كقوله سبحانه: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وقد قيل: إن المتسورين كانا أخوين من بني إسرائيل لأب وأم، وإن أحدهما كان ملكاً والآخر لم يكن ملكاً، فنبها داود على ما فعل.
{لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} وهذا من أحسن التعريض، حتّى كنّى بالنعاج عن النساء.
والعرب تفعل ذلك كثيراً توري عن النساء بالظباء والشاة والبقر وهو كثير وأبين في أشعارهم.
قال الحسن بن الفضل: هذا تعريض التنبيه والتفهيم، لأنه لم يكن هناك نعاج ولابغي، وإنما هو كقول الناس ضرب زيد عمراً، وظلم عمرو زيداً، واشترى بكر داراً وما كان هناك ضرب ولاظلم ولاشراء.
{فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا}. قال ابن عبّاس: أعطنيها.
ابن جبير عنه: تحوّل لي عنها.
مجاهد: أنزل لي عنها.
أبو العالية: ضمها إليَّ حتّى أكفلها.
ابن كيسان: اجعلها كفلي، أي نصيبي.
{وَعَزَّنِي} وغلبني {فِي الخطاب}.
قال الضحاك: إن تكلم كان أفصح مني، وإن حارب كان أبطش مني.
وقرأ عبيد بن عمير: وعازني في الخطاب بالألف من المعاز وهي المغالبة.
فقال داود: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ} فإن قيل: كيف جاز لداود أن يحكم وهو لم يسمع كلام الخصم الآخر؟
قيل: معنى الآية أن أحدهما لمّا ادّعى على الآخر عرّف له صاحبه، فعند اعترافه فصل القضية بقوله: {لقد ظلمك} فحذف الاعتراف، لأن ظاهر الآية دال عليه، كقول العرب: أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال.
وقال الشاعر:
تقول ابنتي لما رأتني شاحباً *** كأنك سعيد يحميك الطعام طبيب
تتابع أحداث تخر من إخوتي *** فشيّبن رأسي والخطوب تشيب
{وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء} الشركاء {ليبغي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فليسوا كذلك {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} ودليل ماذكرنا من التأويل.
ما قاله السدي، بإسناده: إن احدهما لما قال: {إِنَّ هَذَآ أَخِي} الآية فقال داود للآخر: ما تقول؟ فقال إن لي تسعاً وتسعين نعجة، ولأخي هذا نعجة واحدة، وأنا أريد ان آخذها منه فأكمل نعاجي مائة. قال: وهو كاره.
قال: إذاً لاندعك وذلك، وإن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا وهذا يعني طرف الأنف وأصله الجبهة.
فقال: ياداود أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا، حيث لك تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلاّ امرأة واحدة، فلم تزل به تعرضه للقتل حتّى قُتل وتزوجت امرأته.
قال: فنظر داود فلم ير أحداً، فعرف ما قد وقع فيه، فذلك قوله سبحانه: و{وَظَنَّ} وأيقن {دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} ابتليناه.
قال سعيد بن جبير: إنما كانت فتنة داود النظر.
قلت: ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة، ولكنه أعاد النظر إليها فصارت عليه.
فهذه أقاويل السلف من أهل التفسير في قصة امتحان داود.
وقد روى عن الحرث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: من حدّث بحديث داود على ماروته القصاص معتقداً صحته جلدته حدّين لعظيم ما ارتكب وجليل ما احتقب من الوزر والإثم، برمي من قد رفع الله سبحانه وتعالى محله، وأبانه رحمة للعالمين وحجة للمهتدين.
فقال القائلون بتنزيه المرسلين في هذه القصة: إن ذنب داود لما كان أنه تمنى أن تكون له امرأة أوريا حلالاً له وحدث نفسه بذنب، واتفق غزو أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكه، فلما بلغه قتله لم يجزع عليه ولم يتوجع له، كما جزع على غيره من جنده إذا هلك، ثم تزوج امرأته، عاتبه الله سبحانه على ذلك، لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله سبحانه وتعالى.
وقال بعضهم: كان ذنب داود أن أوريا كان قد خطب تلك المرأة ووطّن نفسه عليها، فلما غاب في غزاته خطبها داود فزوجت منه لجلالته، فاغتم لذلك أوريا غماً شديداً، فعاتبه الله تعالى على ذلك حيث لم تزل هذه الواحدة لخاطبها الأول، وقد كانت عنده تسع وتسعون امرأة.
وممّا يصدق ماذكرنا ما قيل عن المفسرين المتقدمين، ما أخبرني عقيل بن محمّد بن أحمد الفقيه: أن المعافي بن زكريا القاضي ببغداد أحمد بن زكريا أخبره عن محمّد بن جرير قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرني ابن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك سمعه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن داود النبيّ حين نظر إلى المرأة وأهم، قطع على بني إسرائيل، وأوصى صاحب البعث فقال: إذا حضرالعدو فقرّب فلاناً بين يدي التابوت، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به من قدم بين يدي التابوت وكان التابوت لم يرجع حتّى يقتل أو ينهزم عنه الجيش، فقتل زوج المرأة ونزل الملكان يقصان عليه قصته، ففطن داود فسجد، فمكث أربعين ليلة ساجداً حتّى نبت الزرع من دموعه وأكلت الأرضة من جبينه، وهو يقول في سجوده: ربّ زلّ داود زلة أبعد ممّا بين المشرق والمغرب، ربّ إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثاً في الخلوف من بعده.
فجاءه جبرئيل عليه السلام من بعد أربعين ليلة فقال: ياداود إن الله غفر لك الهمّ الذي هممت به.
فقال داود: عرفت أن الربّ قادر على أن يغفر لي الهمّ الذي هممت به، وقد عرفت أن الله عدل لايميل، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال: ربّ دمي الذي عند داود؟
فقال جبرئيل: ما سألت ربك عن ذلك، ولئن شئت لأفعلن.
قال: نعم.
فعرج جبرئيل وسجد داود فمكث ماشاء الله ثم نزل، فقال: قد سألت الله تعالى ياداود عن الذي أرسلتني فيه فقال: قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة فيقول له هِب لي دمك الذي عند داود. فيقول: هو لك يارب. فيقول: فإن لك في الجنّة ما شئت وما اشتهيت عوضاً».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا الباقرجي قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشير قال: أخبرنا جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عبّاس قال: واخبرنا سعيد بن بشير وعصمة بن حداس القطعي، عن قتادة عن الحسن وابن سمعان، عمن يخبره عن كعب الأحبار قال: وأخبرني أبو الياس عن وهب بن منبه قالوا جميعاً: إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه، فتحولا في صورتهما فعرجا وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه. وعلم داود إنه عني به، فخر ساجداً أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلاّ لحاجة ولوقت صلاة مكتوبة، ثم يعود ساجداً ثم لايرفع رأسه إلاّ لحاجة لابدّ منها، ثم يعود ويسجد تمام أربعين يوماً، لايأكل ولايشرب وهو يبكي حتّى نبت الزرع حول رأسه وهو ينادي ربّه عزّ وجلّ ويسأله التوبة، وكان يقول في سجوده:
سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء، سبحان خالق النور، سبحان الحائل بين القلوب، سبحان خالق النور، إلهي خليت بيني وبين عدوي إبليس، فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي، سبحان خالق النور، إلهي تبكي الثكلى على ولدها إذا فقدته وداود يبكي على خطيئته، سبحان خالق النور، إلهي لم اتعظ بما وعظت به غيري، سبحان خالق النور، إلهي أنت خلقتني، وكان في سابق علمك ما أنا إليه صائر، سبحان خالق النور، إلهي يُغسل الثوب فيذهب درنه ووسخه والخطيئة لازمة بي لا تذهب عني، سبحان خالق النور، إلهي أمرتني أن أكون لليتيم كالأب الرحيم وللأرملة كالزوج الرحيم فنسيت عهدك، سبحان خالق النور، إلهي الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء فيقال: هذا داود الخاطئ، سبحان خالق النور، إلهي بأي عينين أنظر بهما إليك يوم القيامة، وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي، إلهي بأي قدم أقوم بها أمامك يوم تزول أقدام الخاطئين، سبحان خالق النور، إلهي ويل للخاطئين يوم القيامة من سوء الحساب، سبحان خالق النور، إلهي مضت النجوم وكنت أعرفها بأسمائها، فتركتني والخطيئة لازمة بي، سبحان خالق النور، إلهي من أين تطلب المغفرة إلاّ من عند سيده، سبحان خالق النور، إلهي مطرت السماء ولم تمطر حولي، سبحان خالق النور، إلهي أعشبت الأرض ولم تعشب حولي بخطيئتي، سبحان خالق النور، إلهي أنا الذي لا أطيق حرّ شمسك فكيف أطيق حرّ نارك، سبحان خالق النور، إلهي أنا الذي لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم، سبحان خالق النور، إلهي كيف يستتر الخاطئون بخطاياهم دونك وأنت شاهدهم حيث كانوا، سبحان خالق النور، إلهي قرح الجبين وجمدت العينان من مخافة الحريق على جسدي، سبحان خالق النور، إلهي الطير تسبّح لك بأصوات ضعاف تخافك وأنا العبد الخاطئ الذي لم ارع وصيتك، سبحان خالق النور، إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصاب، سبحان خالق النور، إلهي أنت المغيث وأنا المستغيث فمن يدعوا المستغيث إلاّ المغيث، سبحان خالق النور، إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل عذري، سبحان خالق النور.
اللهمّ إني أسألك إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، أن تعطيني سؤلي فإن إليك رغبتي، سبحان خالق النور، اللهم برحمتك اغفر لي ذنوبي ولاتباعدني من رحمتك لهواني، سبحان خالق النور، اللهمّ إني أعوذ بك من دعوة لاتستجاب وصلاة لا تُتَقَبَّل وذنب لايغفر وعذر لا يقبل، سبحان خالق النور، إلهي أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني، سبحان خالق النور، فررت إليك بذنوبي وأعترف بخطيئتي، فلا تجعلني من القانطين ولا تخزني يوم الدين، سبحان خالق النور، إلهي قرح الجبين وجمدت الدموع وتناثر الدود من ركبتي وخطئيتي الزم بي من جلدي، سبحان خالق النور.
قال: فأتاه نداء: يا داود أجائع أنت فتطعم، أظمآن أنت فتسقى، أمظلوم أنت فتنصر؟
ولم يجبه في ذكر خطيئته بشيء، فصاح صيحة هاج ماحوله ثم نادى: يارب الذنب الذنب الذي أصبته.
ونودي: ياداود ارفع رأسك فقد غفرت لك.
فلم يرفع رأسه حتّى جاء جبرئيل عليه السلام فرفعه.
قال وهب: إن داود عليه السلام أتاه نداء: أني قد غفرت لك.
قال: يا رب كيف وأنت لاتظلم أحداً.
قال: إذهب إلى قبر أوريا فناده وأنا أسمعه نداك فتحلل منه.
قال: فانطلق حتّى أتى قبره وقد لبس المسوح حتّى جلس عند قبره ثم نادى: يا أوريا.
فقال: لبيك من هذا الذي قطع عليَّ لذتي وايقظني؟
قال: أنا داود.
قال: ما جاء بك يانبي الله؟
قال: أسألك أن تجعلني في حل ممّا كان مني إليك.
قال: وما كان منك إليَّ؟
قال: عرضتك للقتل.
قال: عرضتني للجنّة وأنت في حلّ.
فأوحى الله تعالى إليه: ياداود ألم تعلم أنّي حكم عدل لا أقضي بالتعنت والتغرير، ألا أعلمته أنك قد تزوجت إمراته.
قال: فرجع إليه فناداه فأجابه.
فقال: من هذا الذي قطع عليَّ لذتي؟
قال: أنا داود.
قال: يانبي الله أليس قد عفوت عنك؟
قال: نعم، ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وتزوجتها.
قال: فسكت فلم يجبه، ودعاه فلم يجبه، وعاوده فلم يجبه، فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه ثم نادى: الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يؤخذ برقبته فيدفع إلى المظلوم، سبحان خالق النور، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النّار، سبحان خالق النور، الويل لداود ثم الويل الطويل له حين تقربه الزبانية مع الظالمين إلى النّار، سبحان خالق النور.
قال: فأتاه نداء من السماء: يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك.
قال: يارب كيف لي أن تعفو عني وصاحبي لم يعف عني.
قال: ياداود أعطيه يوم القيامة مالم تر عيناه ولم تسمع أُذناه فأقول له: رضى عبدي؟
فيقول: يارب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي.
فأقول له: هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي.
قال: يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي.
فذلك قوله سبحانه: {فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} يعني ذلك الذنب {وَإِنَّ لَهُ} بعد المغفرة {عِندَنَا} يوم القيامة {لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ} يعني حسنٌ مرجع.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا مخلد بن جعفر قال: حدثنا الحسن بن علوية قال: حدثنا إسماعيل بن عيسى قال: حدثنا إسحاق بن بشر قال: أخبرنا أبو الياس ومقاتل وأبو عبد الرحمن الجندي عن وهب بن منبه قال: إن داود لما تاب الله عزّ وجّل عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة، لاترقأ له دمعة ليلاً ونهاراً، وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة، فقسّم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام: فكان يوم للقضاء بين بني إسرائيل، ويوم لنسائه، ويوم يسيح في الفيافي وفي الجبال والساحل، ويوم يخلوا في دار له فيها أربعة آلاف محراب، فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ويساعدونه على ذلك، فإذا كان يوم سياحته، يخرج في الفيا في فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي وتبكي معه الشجر والرمال والطير والوحوش حتّى تسيل من دموعهم مثل الأنهار، ثم يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي معه الحجارة والجبال والدواب والطير حتّى تسيل أودية من بكائهم، ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي معه الحيتان ودواب البحر والسباع وطير الماء، فإذا أمسى رجع.
فإذا كان يوم نوحه على نفسه، نادى مناديه: أن اليوم يوم نَوح داود على نفسه، فليحضر من يساعده.
قال: فيدخل الدار التي فيها المحاريب فيبسط له ثلاث فرش من مسوح، حشوها ليف فيجلس عليها وتجيء الرهبان أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصي فيجلسون في تلك المحاريب، ثم يرفع داود صوته بالبكاء والنوح على نفسه، ويرفع الرهبان معه أصواتهم، فلا يزال يبكي حتى يغرق الفراش من دموعه، ويقع داود فيها مثل الفرخ يضطرب فيجيء ابنه سليمان فيحمله، فيأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ثم يمسح بها وجهه ويقول: يارب اغفر ماترى، فلو عدل بكاء داود ببكاء أهل الدُّنيا لعدله.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن ماجَة قال: حدثنا الحسن بن أيوب قال: حدثنا عبد الله بن أبي زياد قال: حدثنا سيار عن جعفر قال: سمعت ثابتاً يقول: ماشرب داود شراباً بعد المغفرة إلاّ وهو ممزوج بدموع عينيه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن مالك قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا عثمان بن أبي العاتكة: أنه كان من دعاء داود:
سبحانك إلهي إذا ذكرت خطيئتي، ضاقت عليَّ الأرض برحبها، وإذا ذكرت رحمتك ارتدت إليّ روحي، إلهي أتيت أطباء عبادك ليداووا إليّ خطيئتي، فكلهم عليك يدلني.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال: حدثنا محمّد ابن موسى الحلواني قال: حدثنا مهنى بن يحيى الرملي قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خَدّ الدموع في وجه داود عليه السلام خديد الماء في الأرض».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ظفران بن الحسن بن جعفر بن هاشم قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن موسى بن سليمان قال: حدثنا أبو حفص عمر بن محمّد النسائي قال: حدثني إبراهيم بن عبد الله عن ابن بشر بن محمّد بن أبان قال: حدثنا الحسن بن عبد الله القرشي قال: لما أصاب داود عليه السلام الخطيئة فزع إلى العباد، فأتى راهباً في قلة جبل فناداه بصوت عال فلم يجبه، فلما أكثر عليه الصوت قال الراهب: مَن هذا الذي يناديني؟
قال: أنا داود نبي الله.
قال: صاحب القصور الحصينة والخيل المسوّمة والنساء والشهوات، لئن نلت الجنّة بهذا لأنت أنت.
فقال داود: فمن أنت؟
قال: أنا راهب راغب مترقب.
قال: فمن أنيسك وجليسك؟
قال: اصعد تره إن كنت تريد ذلك.
قال: فتخلل داود الجبل حتّى صار إلى القلة فإذا هو بميت مسجىً.
فقال له: هذا جليسك وهذا أنيسك؟
قال: نعم.
قال: من هذا؟
قال: تلك قصته مكتوب في لوح من نحاس عند رأسه.
قال: فقرأ الكتاب فإذا فيه: أنا فلان ابن فلان ملك الأملاك، عشت ألف عام وبنيت ألف مدينة وهَزمت ألف عسكر وألف امرأة أحصنت وافتضضت ألف عذراء، فبينا أنا في ملكي أتاني ملك الموت وأخرجني ممّا أنا فيه، فهذا التراب فراشي والدود جيراني.
قال: فخرَّ داود مغشياً عليه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن محمّد بن علي الهمداني قال: حدثنا عثمان بن نصر البغدادي قال: حدثنا محمّد بن عبد الرحمن بن غزوان قال: حدثنا الأشجعي عن الثوري عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان الناس يعودون داود يظنون أن به مرضاً، ومابه مرض ومابه إلاّ الحياء والخوف من الله سبحانه».
وقال وهب: لما تاب الله تعالى على داود كان يبدأ إذا دعا يستغفر ٍ للخاطئين قبل نفسه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا الباقرجي قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا إسحاق بن بشر قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال: كان داود ساجداً من بعد الخطيئة لايجالس إلاّ الخاطئين ثم يقول: تعالوا إلى داود الخاطئ.
ولايشرب شراباً إلاّ مزجه بدموع عينيه، وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعته، فلا يزال يبكي حتّى يبتل بدموع عينيه، وكان يذر عليه الملح والرماد فيأكل ويقول هذا أكل الخاطئين.
قال: وكان داود قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم النصف من الدهر، فلما كان من خطيئته ما كان، صام الدهر كله وقام الليل كله.
وأخبرنا عن إسحاق قال: حدثنا مقاتل وأبو الياس قالا: حدثنا وهب بن منبه: أن داود لما تاب الله عليه قال: يارب غفرت لي؟
قال: نعم.
قال: فكيف لي أن لا أنسى خطيئتي فأستغفر منها وللخطائين إلى يوم القيامة.
قال: فوسم الله عزّ وجلّ خطيئته في يده اليمنى، فما رفع فيها طعاماً ولاشراباً إلاّ بكى إذا رآها، وما كان خطيباً في الناس إلاّ بسط راحته فاستقبل الناس، ليروا وسم خطيئته.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال: حدثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجدلي قال: مارفع داود رأسه بعد الخطيئة إلى السماء حتّى مات.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدثنا محمّد بن خالد قال: حدثنا داود بن سليمان قال: حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا أبو أسامة عن محمّد بن سليمان قال: حدثنا ثابت قال: كان داود إذا ذكر عقاب الله تخلعت أوصاله لايسدها إلاّ الأسر وإذا ذكر رحمته تراجعت.
قال: وروى المسعودي عن يونس بن حباب وعلقمة بن مرثد قالا: لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع داود أكثر حيث أصاب الخطيئة، ولو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم عليه السلام أكثر حيث أخرجه الله تعالى من الجنّة وأهبط إلى الأرض.
ويروى أن داود كان إذا قرأ الزبور بعد الخطيئة لايقف له الماء ولاتصغي إليه البهائم والوحوش والطيور كما كان قبلها، ونقصت نعمته فقال: إلهي ماهذا؟
فأوحى الله سبحانه: ياداود إن الخطيئة هي التي غيرّت صوتك وحالك.
فقال: إلهي أوليس قد غفرتها لي؟
فقال: نعم قد غفرتها لك، ولكن ارتفعت الحالة التي كانت بيني وبينك من الودّ والقربة، فلن تدركها أبداً فذلك قوله: {فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ}.
قال الحسين بن الفضل: سألني عبد الله بن طاهر وهو الوالي عن قوله سبحانه: {وَخَرَّ رَاكِعاً} هل يقال للراكع خرَّ؟
قلت: لا.
قال: فما معنى الآية؟
قلت: معناها فخرَّ بعد أن كان راكعاً، أي سجد.
أخبرني الحسن بن محمّد بن الحسين قال: حدثنا هارون بن محمّد بن هارون العطار قال: حدثنا محمّد بن عبد العزي قال: حدثنا سليمان بن داود قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أبي سعيد الخدري قال: رأيتني أكتب سورة ص والقرآن ذي الذكر، فلما أتيت على هذه الآية {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ}، رأيت فيما يرى النائم كأنّ القلم خرّ ساجداً، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تقول كما قال وتسجد كما سجد» فتلاها فسجدوا وأمرنا أن نسجد فيها.
وأخبرني الحسين بن محمّد قال: حدثنا صمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدثنا أبو حفص بكر بن أحمد بن مقبل قال: حدثنا عمر بن علي الصيرفي قال: حدثنا اليمان بن نصر الكعبي قال: حدثنا عبد الله أبو سعد المدني قال: حدثني محمّد بن المنكدر عن محمّد بن عبد الرحمن بن عوف قال: حدثني أبو سعيد الخدري قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يارسول الله إني رأيت الليلة في منامي كأني تحت شجرة، والشجرة تقرأ ص، فلما بلغت السجدة سجدت، فسمعتها تقول في سجودها: اللهم أكتب لي بها أجراً، وحط عني بها وزراً، وارزقني بها شكراً، وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود سجدته, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفسجدت أنت يا أبا سعيد؟»قلت: لا يا رسول الله, قال: «أنت كنت أحق بالسجدة من الشجرة» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى بلغ السجدة فسجد ثم قال مثل ما قالت الشجرة.
وأخبرني الحسين بن محمّد قال: حدثنا محمّد بن علي بن الحسن قال: حدثنا بكر بن أحمد بن مقبل قال: حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا محمّد بن يزيد بن خنيس قال: حدثنا الحسن بن محمّد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال: قال لي ابن جريح: حدثنا حسن قال: حدثني جدّك عبيد الله بن أبي يزيد قال: حدثني ابن عبّاس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله إني رأيت الليلة فيما يرى النائم كأني أُصلي خلف شجرة، فرأيت كأني قرأت السجدة فسجدت فرأيت الشجرة كأنها سجدت، فسمعتها وهي ساجدة تقول:
اللّهم اكتب لي عندك بها أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وضع عني بها وزراً، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود.
قال ابن عبّاس: فرأيت النبييّ صلى الله عليه وسلم قرأ السجدة ثم سجد فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما قال الرجل من كلام الشجرة، قال الله سبحانه وتعالى فغفرنا له ذلك {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
روى أبو معشر عن محمّد بن كعب ومحمّد بن قيس أنهما قالا في قوله عزّ وجلّ: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
روى أبو معشر عن محمّد بن كعب قال: إن أول من يشرب الكأس يوم القيامة داود.
{ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب} تركوا الأيمان بيوم الحساب {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار * أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا} ليتدبروا {آيَاتِهِ}.
هذه قراءة العامة. وقرأ أبو جعفر وعاصم في رواية الأعشى والترجمني: {ليدبروا} بياء واحدة مفتوحة مخففة على الحذف.
قال الحسن: تُدبر آياته، إتباعه.
{وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب}

1 | 2 | 3